قصة غلطة الجزء التاسع
- Othmane El jadid
- Jul 28
- 3 min read
على أنغام "أنت عمري" المتذبذبة من الغرفة المجاورة، كان هو مستلقيًا على الأريكة في الشرفة، نصف وجهه غارق في الظل، والنصف الآخر يضيئه شعاع شمس خفيف. رغم امتلاكه لهاتف حديث وحاسوب محمول، لا يزال يفضل مذياعه القديم، الذي تصدر منه أصوات مشوشة لأغنيات أُم كلثوم كأنها تأتي من زمن بعيد، زمن لم يكن فيه هذا الصمت الداخلي ينهش قلبه.
كانت "أنت عمري" أكثر من أغنية. كانت نشيد المحبين، و التائهين، والمنسيين، والمجروحين، وأولئك الذين لا يجدون وصفًا لما يشعرون به سوى النغمة. من الناس من لا يفهم الكلمات، لكنه يبكي مع اللحن. وهو ليس منهم بل هو من الذين تركهم قطار الحياة، اشعلوا سجارة و شاهدوه يختفي دون ان يودعوه.
بين أكواب قهوة باردة، وزجاجات كحول نصف فارغة، جلس يراقب الشارع شبه المزدحم من شرفته، لا ينتظر شيئًا، لا يطمح لشيء. الوقت مر عليه كدخان السجائر: كثيف، مؤذٍ، ويزول سريعًا دون أن يترك شيئًا سوى رائحة تعب.
في الأسفل، تمرُّ هي.
عيناها غارقتان في الأرض. خطواتها ليست سريعة ولا بطيئة، كأنها تمشي لتنجو، لا لتصل. لمحها للحظة، لم تكن طويلة، لكنها تركت أثرًا. كلما مرّت، كانت تسرق من وحدته لحظة حيرة. ما قصتها؟ لماذا لا تنظر أبدًا لأعلى؟
كان يعرفها فقط من ملامحها المتكررة، لا من اسمها. امرأة تُشبه الدار البيضاء: متعبة، أنيقة رغم الخدوش، وداخليًا منهارة.
...
هي من جهتها كانت قد خرجت للتو من المصعد، حاملة كيس خبز وعلبة حليب رخيصة، في طقس ليس حارًا ولا باردًا. عيناها جافتان، لا أثر للنوم فيهما. لم تنم جيدًا، كعادتها. لكنها اليوم شعرت بحاجة للمشي، للابتعاد عن رائحة المكتب والبيت.
كان صوتًا لطف فتاة صغيرة، في حوالي الخامسة عشرة من عمرها، ذات شعر كستنائي مجعد وعينين واسعتين فيهما فضول العالم كله. كانت ترتدي كنزة زهرية باهتة وسروالاً منزلياً، وتحمل بين يديها كوبًا بلاستيكيًا مكسور الحافة.
"ماما قالت واش عندك شوية زيت، راه سالينا."
نظرت إليها للحظة طويلة، قبل أن ترد بابتسامة خفيفة، غائبة بعض الشيء. ثم دخلت المطبخ وقدّمت لها الزجاجة.
"شكراً خالتي."
"شنو سميتك؟"
"رُقيّة."
"سمية زوينة..."
ذهبت رقيّة بسرعة بعد ذلك، لكن مشيتها كانت خفيفة كمن يرقص في خياله. بقيت تنظر خلفها، وكأنها أرادت قول شيء ولم تقدر.
رجعت إلى شقتها، وأغلقت الباب ببطء. جلست على الأرض قرب النافذة، ونظرت إلى المدينة. رأت في تلك الطفلة نفسها، بكل ما لم يتحقق. بكل ما قيل لها إنه ممكن، ثم سُحب منها في صمت. ليس غيرة، لا. بل حزنٌ نبيل. حزن على كل ما كانت تستطيع أن تكونه، ولم تصبحه.
تذكرت أحلامها القديمة: الكتابة، السفر، التمثيل، الحب، الحنان. أشياء لم تطلبها من أحد، فقط من القدر.
...
في المساء، جلس هو في المقهى الذي يرتاده منذ سنوات. يعرف النادل، ويعرف الوجوه التي تأتي وتذهب. لكنه لا يعرف أسماءهم. لا حاجة لذلك. المقهى مثل المسرح، كل شخص فيه يؤدي دورًا، وهو متفرّج لا يصفّق.
طلب قهوة سوداء دون سكر، وسحب دفتر ملاحظات قديم. لا يكتب فيه شيئًا. فقط يفتحه، ينظر إليه، ثم يغلقه مجددًا. كأن هناك قصة عالقة في حلقه. دخّن سيجارته الأولى ببطء، ثم الثانية بنهم، كأنها آخر لحظة تأمل.
جلس وحيدًا في الطاولة الخلفية، تلك التي تطل على الشارع وتخفيه قليلاً. المقهى كان يعجّ بالضجيج، لكن داخله، كان الصمت سيد اللحظة. نظر إلى الزجاج فشاهد انعكاسه: رجل لا يزال في مكانه، لكن الزمن تجاوزه.
في الزاوية الأخرى، دخلت هي. لم تره. لم تكن حتى تنظر حولها. طلبت كأس ماء وجلست. لا هاتف، لا كتاب. فقط جلوسها.
كانت تضع وشاحًا رماديًا على كتفيها، وشعرها مربوط على عجل، كأنها كانت تود البقاء في البيت لكنها خرجت على مضض. عيناها كانتا تبحثان عن شيء غير موجود، شيء ربما دفن في الزمن.
تابعها بعينين ثابتتين. في داخله، شيء يتحرك ببطء. ليس حبًا، بل شيء يشبه التوق. توق لفهم، لرغبة في ربط خيوط الحكاية. لم يكن ينوي الاقتراب منها، لكنه أحس كأنها قطعة موسيقى يعرفها ولم يسمعها منذ سنوات.
الى ان جاءه هاتف جعله يركض للعمل مجددا على امل يلتقيا مجددا ولو صدفة.
...
في الليل، كلٌ منهما في شقته. هو يدخّن سيجارته الأخيرة، ويعيد تشغيل المذياع. هي تشرب كوب حليب بارد وتفكر في المراهقة . في جارها القديم. في الرجل في المقهى الذي لم تلاحظ.
كأن الحياة كلها تدور في دائرة صغيرة، وكل شخص فيها يمر بجانب الآخر دون أن يعرف إلى أي حد قد يكون هو مرآته.
وفي السماء، فوق المدينة النائمة، لا شيء يُسمع سوى همسات الذكريات.
يتبع...




Comments