قصة غلطة : الجزء الثاني
- Othmane El jadid
- 4 يونيو
- 3 دقيقة قراءة
تاريخ التحديث: 2 يوليو
"إن أزهرت وردة في الظلام، هل تثق بأنها أزهرت حقًا؟
أم أنها فقط ظنت نفسها زهرة، ونسيت أنها نبتت فوق مقبرة؟"
أنا فقط رأيتها. لم يكن في الحانة أحد يراها كما رأيتها.
كانوا يرون جسدًا نحيلًا، فستانًا داكنًا، كأسًا شبه فارغ.
أما أنا، فرأيت سؤالًا يمشي على قدمين.
تساءَلت، بين فترات الصمت التي تملأ زوايا الحانة، وبين ضحكات باهتة تُسمع ولا تُشعر.
كأن الليل يخفي في ظلامه صرخات لا أحد يريد سماعها.
كأن كل زهرة تُولد هنا، تُدان لأنها ولدت في المكان الخطأ.
رأيتها تعطي آخر سيجارة لديها لنادلة جديدة.
ثم أشاحت بوجهها، كأنها خجلت من كونها لا زالت طيبة.
كانت تتساءل:
هل تستحق الزهرة أن تُحرق فقط لأنها نبتت في بيئة ملوثة؟
هل يجب على الأرواح النقية أن تتسخ كي تعيش؟
لماذا صار النقاء مرادفًا للسذاجة، والنية الطيبة مرادفة للغباء؟
لماذا كلما حاولت أن تُحب بصدق، صارت فريسة سهلة لمن يعرف كيف ينهش القلوب بثقة وابتسامة؟
كانت الأسئلة كثيرة، صاخبة كالدخان المتصاعد من سيجارة قديمة، تمتد لتغطي كل الذكريات.
وأنا، وسط الزحام، فهمت كل شيء.
وكرهت كم أنني وصلت متأخرًا.
الصباح...
آه، الصباح.
في طفولتها، كان الصباح مرآة السماء داخلها.
كانت تنتظر الشمس كي تلمس وجنتيها كأنها لمسة أمٍ فقدتها.
كان الحقل ينتظرها، وكانت الندى كأنها قطرات حنان من الكون.
تصعد السطح خفية، ترتبك، لكنها لا تخاف. كانت تأمل أن تعود يومًا، بنفسها، لكن أقوى، تحمل بين يديها حياة جديدة، ابنها الذي وعدت نفسها به، لتهبه حبًا لم تحصل عليه أبدًا.
لم أسمعها تتحدث عن طفولتها كثيرًا، لكن كانت تذكر “الندى” وكأنه صلاة.
كأنها خُلقت لتعيش في الضوء… لا هنا.
لكن تلك البنت الصغيرة، ذات الجسد النحيل والعيون المستيقظة، لم تعد.
حلّت مكانها امرأة لا زالت ترتعش في عمقها، رغم جفاف ملامحها.
امرأة سُرقت منها الأحلام تحت شعار "النضج".
امرأة صار جسدها شاهداً على معارك لم يخبرها أحد كيف تُخاض.
تتذكر كيف كانت تدرس في الثانوية، على بُعد ساعة من بيتها، ورغم التعب، كانت تعود لتطبخ، تساعد، تبتسم، دون أن يسألها أحد عن يومها.
أبواها؟ لم يعرفا الحب، ولا التقاط النظرات المكسورة.
رفاقها؟ أغلبهم ذكور. الفتيات كنّ يُزوجن في سنٍ مبكر، وكان الحُلم أن تصير "عروسة"، لا "امرأة حرة".
الآن، وهي في مكانها، على بعد ساعات من الشروق، تكره مجيء الصباح.
الصباح صار دليلًا على أن الحياة مستمرة، رغم أنها لم تعد قادرة على المتابعة.
تتمنى لو يتوقف الزمن، فقط لحظة...
لحظة واحدة دون صوت، دون فكرة، دون وجع.
ظهرها يؤلمها... ليس من الجلوس، بل من الحِمل.
ذلك النوع من الألم الذي لا يُعالج، لأنه لا يأتي من العظم، بل من الذاكرة.
كل شخص لم تستطع نسيانه، ساكن هناك.
كل وداع غير مكتمل، كل خذلان، كل نظرة احتقار، كل نظرة شفقة.
شاهدتها تمرر يدها على رقبتها، ببطء، كأنها تحاول أن تمسح ذكرى خنقتها هناك.
رجل من الزبائن لمس ظهر نادلة، فتوترت ملامحها فجأة.
كأنّ يدًا من الماضي عادت تعبث بها مجددًا.
تكره عملها... رغم أنه ليس "شنيعًا".
تكره كيف يتحول الإنسان لآلة في إدارة لا تعترف بالإنسان أصلًا.
تكره تلك اللحظات التي تضطر فيها للابتسام لمدير تكرهه، أو مجاراة زملاء لا يشبهونها في شيء.
تكره الشعور باللا جدوى. بالفراغ.
وفي هذا الفراغ، تسلّل صوته...
هو، الرجل الذي دخل حياتها مصادفة،
أو هكذا ظنت.
كان مختلفًا. أو جعلها تظن ذلك.
ضحكته فيها شيء من الطفولة، صوته فيه دفء لم تعتده.
ولأول مرة منذ زمن، شعرت أنها مرئية. أن هناك من ينظر في عينيها، لا جسدها.
كان يُصغي، يتحدث عن الحياة، عن الفن، عن الحزن.
قال لها مرة:
"أنتِ مثل شجرة زيتون نبتت في رمال متحركة… عنيدة، رغم كل شيء."
كلماته كانت كالمرهم...
لكنها لم تكن تعلم أن خلف الدفء، كان هناك جليد ينتظر أن يذيبها.
كانت عطشى، واعتقدت أنه الماء.
لم تدرك أنه سرابٌ آخر... بل كان أشد العطش.
بدأت تُصدّق أنه مختلف، وأنه ليس كالباقين.
لكنها لم تكن تعلم…
أن بعض الذئاب لا تعوي، بل تعزف موسيقى ناعمة.
وأن القلب حين يجوع للحب، يلتهم حتى السمّ إن قُدم له في كأسٍ من الحنان.
يتبع ...




تعليقات