top of page

قصة غلطة الجزء العاشر

  • صورة الكاتب: Othmane El jadid
    Othmane El jadid
  • 13 أغسطس
  • 3 دقيقة قراءة

وفي السماء، فوق المدينة النائمة، لا يُسمع سوى همسات الذكريات.


الحياة، في حقيقتها، دائرة صغيرة. ونحن فيها كالفئران… فئران تجارب تدور في عجلة وُجدت لتعيد تكرار أخطاء الماضي، وتغرق في الذكريات. ومن نجا من إحداهما، ابتلعه الآخر. أمّا من غرق في نعيم الجهل، فقد سلِم مؤقتًا… لكنه سلامٌ أعمى.


هي كانت غارقة وسط أحلامها الدافئة، تلك التي تخبئها في دفاتر صفراء مهترئة، كل ورقة منها تفوح برائحة سنين ضاعت ولم تمت. وهو… كان يشعل سيجارته الثلاثين هذا اليوم، يتابع احتراقها كما لو كان يراقب نفسه وهي تفنى ببطء. حتى طعم الخمر المر لم يعد لذيذًا كما كان في البدايات؛ صار يشربه كما يؤدي عملًا روتينيًا مملًا، كأسًا بعد كأس، عله يصل إلى تلك الدرجة التي يمحو فيها كل شيء من رأسه… ولو مؤقتًا.


يتأرجح بين سريره وشرفته، وأحيانًا يصعد إلى السطح هربًا من أفكاره، أفكارٌ لاحقته لسنوات كما يلاحق ظلٌ صاحبه عند المغيب.


ولربما، عزيزي القارئ، تتساءل الآن: كيف يمكن لأحدهم أن يظل عالقًا في نفس الدائرة لسنوات، ونحن نعيش في زمن السرعة والتطور؟ لكن الحقيقة أن هذه قصة قديمة، بقدم الإنسان نفسه. منذ أن وُجد، وهو يبحث عن مكان ينتمي إليه، وعن إجابة لسؤال: "أين أنا وسط كل هذا الضجيج؟"


كلما اندمج بين الناس، زادت حيرته. لا يجد نفسه في أحضان ولا في مجالس، والأغرب أن البعض يموت دون أن يجد حضنًا واحدًا يحتويه.


نحن في زمن يسهل فيه العثور على أي معلومة، لكن يصعب العثور على أنفسنا. الجميع يعرف الجميع، والجميع غريب عن الجميع. تستطيع أن تبحث في أي محرّك بحث عن أي اسم، لكن… أي اسم؟ أي عنوان؟ أي طريق يقودك لما تبحث عنه حقًا؟


فنغرق في الملهيات، فقط لنهرب من نقطة الصفر، حتى نجد أنفسنا… في نفس نقطة الصفر.


كانت هي، في غرفتها، تستنجد بصمت لتجد نفسها، وهي على بعد أمتار معدودة من رجلٍ لا يبحث عنها، لكنه في أمس الحاجة لمن ينقذه. وهذه، يا قارئي العزيز، سخرية الحياة: ليس هناك خيطٌ سحري يربط الأرواح التائهة.


الحياة غالبًا لا تشبه قصص المراهقة المليئة بالإثارة والرومانسية، بل تمتلئ بكؤوس مرّة من الملل والتكرار. مهما لمعَت ألوان الرأسمالية على شاشات التواصل الاجتماعي واحتفت بـ"الفائزين"، هناك ملايين، إن لم يكن مليارات، يغرقون في جرعات من التعاسة اليومية، نسميها… الروتين.


هل السعادة الحقيقية تُعاش بعيدًا عن العدسات، أم أن العدسات تلاحقنا أينما ذهبنا لتذكّرنا بزيف مشاعرنا؟ هل نحن أحياء حقًا… أم أننا نحيا في جحيم بارد، جحيم لا يحرق الجسد بل ينهش الروح؟ ربما النيران التي وُعِدنا بها كانت داخلنا منذ البداية.


ولو كانت هذه النيران تلسع ظهورنا، لربما عرفنا أين نبحث عن النجاة. لكن الآن، لا نعرف: هل سينقذنا شخص؟ رقم في حسابنا البنكي؟ وطن آخر؟ هدف جديد نضعه على قائمة "أعمال الإثنين"؟


تبا لهذه الحياة… وتبا لعالم صاخب بهدوئه، يقتل أرواحنا ونحن ما زلنا نتنفس.


وأصعب جحيم بعد الموت، أن يُفرض علينا إعادة كل شيء من الصفر… بذاكرة ممحية. ذلك هو العذاب الأكبر.


لكن العاصفة هذه الليلة كانت مختلفة.


هو كان على الشرفة، سيجارته تتوهج في العتمة، حين لمح من نافذة الجهة المقابلة ظلًا يتحرك. كان يعرف أنها غرفتها، تلك التي لم يُرَ ضوءها منذ أسابيع. فجأة، انفتح الستار قليلًا، وبدا له أنها كانت جالسة قرب النافذة، دفترها مفتوح، رأسها مائل على يدها كمن فقد القدرة على المقاومة.


لم يعرف لماذا، لكن هذه المرة لم يشيح بنظره. شعر بشيء يدفعه إلى البقاء، إلى المراقبة، إلى الانتظار. دخّن ببطء، ثم أطفأ السيجارة، وبدلًا من العودة إلى غرفته، بقي واقفًا، كأنّ جزءًا منه ينتظر أن ترفع رأسها وتنظر.


في تلك اللحظة، في غرفتها، كانت تمزق صفحة من دفترها ببطء. الورقة التي سقطت على الأرض لم تكن فارغة؛ كانت تحمل كلمات… اسمه.

تعليقات


bottom of page