قصة غلطة : الجزء الثامن
- Othmane El jadid
- 15 يوليو
- 2 دقيقة قراءة
حسّت بدفء غريب يمرّ من رقبتها إلى صدرها، كأن شيئًا تفتّح بعد شتاء طويل. لم تتكلّم مجددًا لبقية الجلسة، فقط جلست هناك، تتنفس ببطء، بينما الساعة تدور.
كان الطبيب يتأملها، لا يستعجل الإجابة، ثم فجأة، قطع الصمت بصوته المنخفض:
— "شنو أكثر حاجة كتخليك تعيشي هكا؟"
سؤال بسيط، لكنه نزل عليها بثقل سؤال عن وجودها نفسه. أرادت أن تجيب، لكنها لم تكن تعرف. فكّرت في الخوف، في الخجل، في الذكرى، في الخيانة، في الوحدة… لكن لا إجابة جاءت واضحة. فقط نظرت إليه، ثم إلى الأرض، وأجابت بصوت خافت:
— "مكنعرفش… بحال إيلا ولّيت كنعيش غير باش ندوز نهار آخر، بلا سبب."
أومأ مرة أخرى. لم يعقّب، لم يُنكر عليها شعورها، فقط كتب شيئًا آخر في دفتره، ثم نظر إلى ساعته الصغيرة على الطاولة الجانبية.
— "غادي نوقفو هنا لليوم… مازال عندنا بزاف نحكيو فيه، وخاصنا ناخدو الوقت ديالنا."
أومأت بهدوء، وقفت، وشكرته دون أن تنظر في عينيه. في الخارج، كان الجو قد تغيّر. هواء البيضاء المسائي يعبث بخصلات شعرها، وتحت أقدامها، الأرصفة الرمادية بدت أقل قسوة. لم تشعر بالراحة، لكن شعورًا خفيفًا، كريح دافئة في ليلة باردة، راودها فجأة. لم تكن سعيدة، لكنها لم تكن منهكة كما اعتادت.
قررت أن تكافئ نفسها بشيء بسيط، شيء نسيته منذ زمن. دخلت مقهى قديمًا على ناصية شارع محمد الخامس، طلبت وجبة كاملة، جلست تأكلها دون استعجال، كما لو أنها تفكّر بجسدها لأول مرة منذ أشهر.
ولأنّ المدينة لا تُخفي شيئًا، كان هناك عيون تراقبها دون أن تدري.
---
من ركنٍ بعيد في الحانة، أجلس كعادتي... كأس في يدي اليسرى، وسيجارة تحترق ببطء بين أصابعي. لم أعد أعدّ عدد الكؤوس. لم أعد أذكر لماذا بدأت أشرب أصلًا. كل ما أعرفه أن هذه المدينة – البيضاء – لها طريقة غريبة في امتصاص الحنين من صدرك دون أن تُرجعه أملًا أو حتى نسيانًا.
هي تجلس هناك...
في نفس الطاولة كل مرة. لا تغيّر مقعدها. لا تغيّر مزاجها. وكأنها اختارت أن تنتمي للصمت.
امرأة لا تُشبه أحدًا. لا تقول شيئًا، ولا تطلب شيئًا أكثر من كأس واحد، وربما سيجارة أو اثنتين. وجهها هادئ، لكن عينيها... شيء في عينيها يُربكني. كأنها تُخبئ عاصفة، كأنها تصرخ من الداخل منذ سنوات ولم يسمعها أحد.
أنا لا أعرف اسمها، ولا أريد. لا أنوي الحديث معها. لم أعد من النوع الذي يتقدّم أو يُبادر. لم أعد أصدق أن للحديث جدوى.
أنا رجل خسر معاركه مع الحب منذ زمن. عدت من الغربة منذ خمس سنوات، ولا شيء ينتظرني هنا سوى ذكريات رجل آخر كنتُه ذات يوم. لا زوجة، لا أبناء، لا أهل، لا بيت. فقط شقة فارغة مليئة بشهادات قديمة، وجدران صامتة. كنتُ أحمل آمالًا كبيرة، واليوم أحمل صدري المتعب وسلسلة مفاتيح لا تفتح إلا بابًا واحدًا: الوحدة.
حين أراها، لا أشتهيها. ولا أحنّ إليها. بل أراها كما يرى المتصوّف الجمال في المدى. شيء بعيد، نظيف رغم الطين، لا يُلمس. فيها ملامح تشبه وجوه الحالمين الذين ضلّوا الطريق، ولسببٍ ما، نجوا بجزءٍ منهم.
ربما أحببتها دون أن أدري. أو ربما أحببت فيها الفكرة فقط. فكرة أن هناك شخصًا آخر… حزين مثلي، تائه مثلي، حيّ رغم موته الداخلي.
هي لا تعرفني، ولن تعرفني. وأنا لن أقترب.
لكنني أكتفي بالنظر، وأشرب... كما لو أني أنقذ نفسي من الغرق بالفرجة على من غرق قبلي وما زال يطفو.



تعليقات