top of page

قصة غلطة : الجزء الخامس

  • صورة الكاتب: Othmane El jadid
    Othmane El jadid
  • 4 يونيو
  • 3 دقيقة قراءة

تاريخ التحديث: 2 يوليو

صافي عييت.


قالتها بهمسة بالكاد تسمع، وأغلقت عينيها على مكتب العمل، كأنها تطلب هدنة صغيرة من العالم. لم يكن النوم، بل شيء يشبه الاستسلام الهادئ، حيث يصبح التفكير ألماً إضافيًا. أغلقت عينيها فوق مكتب العمل المتعب، حيث تصطف الملفات مثل قبور صامتة، وحيث لا صوت يُسمع سوى حركة التكييف، ورنين الحياة التي تحدث بعيدًا عنها.


كانت تُجيد الهرب داخل عقلها.

تعرف أن هناك كسرًا قديمًا لم يلتئم.

تعرف أنها مرّت بسنوات كافية لتتعلم "تجاوز الأمور"، لكن قلبها رفض أن يتعلم.


مرت سنوات، تغيرت فيها تسريحاتها، عطورها، ملامح وجهها، حتى نبرة صوتها صارت أكثر هدوءًا وأقل اندفاعًا…

لكن شيئًا واحدًا لم يتغيّر:

ذلك الشعور الذي يزورك كل صباح، وأنت تنظر في المرآة، وتقول في سرّك: "ماشي أنا، ماشي هادي حياتي."


كانت تعرف. تعرف أنها ليست بخير، وتعرف أن شيئًا في داخلها انكسر منذ زمن، ولم تجد الطريقة لترميمه. لم تخدع نفسها بوهم النسيان، كانت تواجه نفسها في كل مرآة، كل صباح، وتدرك كم هو ثقيل أن تستيقظ بنفس القلب المكسور الذي نام البارحة.

الهاتف رن. ترددت قبل أن تنظر.

"ماما"

الاسم وحده في الشاشة، كان كافياً ليعيد لها التعب الذي حاولت طرده.


سحبت نفسًا، وضغطت على الزر.

ـــ "آلو."

ـــ "بنتي، آش خبارك؟"

ـــ "لاباس."

ـــ "شوفي… ما نكذبش عليك، راه خصنا الفلوس. خوك مريض، وكاينين المصاريف."

ـــ "عارفة ماما، غير مازال ما دخلش الصالير."

ـــ "صالير؟ آش من صالير؟ نتي غير خدامة باش تبقاي عايشة، ماشي باش تعاوني داركم. آش فدّيتي؟ الراجل ما قدّيتيش عليه، حتى خدمتك مافيها ما يتشاف…"

ـــ "صافي ماما، غير ما تزيديش…"

ـــ "ما تزيديش؟ راه نتي اللي خاصك ديري حسابك، راه الوقت ما كيرحمش. نتي ما درتي والو فهذ الحياة."


ـــ "أنا كنقول الحق. نتي ما درتي والو فهذ الدنيا، وهادي هي النتيجة."


ـــ "صافي، عندي خدمة دابا، نعاود نهضر معاك من بعد."


انتهت المكالمة، وبقي الهاتف في يدها مثل جرح طري.

حين كانت في الخامسة عشرة، كانت تحلم بأن تشتري لوالدتها منزلًا في المدينة، تطبخ لها فيه فطائر الأحد، وتضحك معها كالأفلام العائلية السعيدة.


لكن في الحقيقة، لم تتلقَّ منها يومًا حضنًا. كانت أمها تنظر إليها كشيء لم ينجح. لم ترَ فيها الطفلة، بل المشروع الذي فشل.


لم تبكِ. لم تكن تملك هذا الرفاه.

قامت ببطء، دخلت مرحاض الشركة، وغسلت وجهها بالماء البارد، ثم نظرت في المرآة.

الفتاة في المقابل… كانت امرأة.

أكبر من سنها.

حزينة من الداخل، رغم أحمر الشفاه الذي حاولت أن تُخفي به التعب.

تعرف أنها كبرت قبل وقتها.

تعرف أن "الأمومة" التي عرفتها، لم تكن حناناً.

كانت ضغطًا، توقعًا، ونقدًا لا يتوقف.


عادت إلى مكتبها، جلست بلا حراك.

كأن روحها خرجت منها قليلاً.


الآن، بعد سنوات…

هي في مدينة لا تنام، وسط مكاتب باردة، ووجوه مجهولة، ووحدة أليفة.


ومع ذلك، شيء في داخلها لا يزال يؤمن بأن الحب، ذلك الحب، لم يكن عابرًا.

لم يكن مجرّد تجربة.

كان شيئًا يخصّها، فقط هي.

لكن الأيام تتقدّم، والماضي يبتعد.

وكلما حاولت أن تفتح قلبها لغيره، وجدت نفسها تحبس المقارنة، تغلق الباب، وتعود إلى مقعدها الخالي في القلب.


رغم ان الخطأ خطأها، ما من شكّ في ذلك. لم تُجبرها الحياة على شيء، بل هي من اختارت — باندفاع قلبٍ ساذج، وبقصر نظرٍ مؤلم — أن تسلك الطرق الملتوية، أن تثق في من لا يستحق، وأن تلوّن الحكايات الرمادية بألوان وهمية. كانت تعرف، في قرارة نفسها، أن بعض الأبواب لا تُفتح إلا على حزنٍ مقيم، ومع ذلك طرقتها، وابتسمت عند العتبة. كانت قراراتها، واحدة تلو الأخرى، تنسج لها قيدًا من خيبة، وهي تظن أنها تختار حريتها. الآن، لا تملك إلا أن تنظر إلى الخلف، وتتمتم في صمت: "لقد خذلتُ نفسي قبل أن يخذلني أحد."


عادت إلى مكتبها، جلست بصمت، كأنها لم تكن.

تنهّدت، وأغمضت عينيها مرة أخرى.


كل شيء أصبح ثقيلاً. العمل، البيت، الأم، الذكريات، الوحدة… وحتى الحب القديم.

لكن شيئاً في داخلها كان لا يزال ينتظر.

ينتظر شيئاً يبرّر هذا الصبر الطويل.

تعليقات


bottom of page