top of page

قصة غلطة : الجزء السابع

  • صورة الكاتب: Othmane El jadid
    Othmane El jadid
  • 5 يوليو
  • 2 دقيقة قراءة

"أنا ماشي مريضة... ولكن ماشي بخير."

قالتها وهي تنظر إلى الأرض، كأنها تخشى من وزن الكلمات أكثر من معناها. لم تكن هذه اعترافًا، بل محاولة للدفاع عن ما تبقّى منها. الطبيب لم يرد مباشرة. فقط حرّك رأسه بحركة صغيرة، سريعة، دون ضجيج، دون تحليل.

كانت الغرفة ساكنة، أكثر مما توقعت. كأن الصمت فيها مدروس. الضوء الداخل من نافذة جانبية خافت، يمر عبر ستارة بلون الكريمة الباهت. رائحة خفيفة من الخشب القديم والمسك المائي. الكتب مصطفّة بدقة خلف مكتبه، بعضها بجلدٍ داكن، بعضها بعناوين فرنسية، وآخر بالعربية الكلاسيكية. لا لوحات فلسفية على الجدران، لا اقتباسات تحفيزية، فقط ساعة نحاسية دائرية لا تُصدر أي صوت.

جلست على الأريكة الرمادية المتوسطة العمق، تظاهرت بأنها مرتاحة. في الحقيقة، ظهرها مشدود، ويدها اليمنى تمسك بداخل كمّها الأيسر، كمن يعاقب نفسه بهدوء. كانت تتفادى عينيه، وتنظر إلى كل شيء آخر: الزر المكسور في طرف الوسادة، خيوط السجادة المتآكلة، الكوب الفارغ بجانب ساعته الصغيرة.

أما الطبيب، فجلس على كرسي جلدي بسيط. وجهه خمسيني، لكن مُتعب بشكل جميل. ملامحه لا تحكم، لا تبتسم كثيرًا، ولكنها تُصغي بنبل. لديه ذلك النوع من الرجال الذين يحملون ماضيًا صامتًا لا يتحدثون عنه، ولكنك تشعر به في نبرة صوتهم، في انحناءة الكتف الطفيفة.

سألها أخيرًا، دون استعجال:

ـ "إيلا ماشي مريضة… آش اللي خلاك تجي عندي اليوم؟"

سؤال بسيط، لكنها أحسّت به يخترق صدراً مغلقاً منذ سنوات.

أجابت بعد صمت طويل:

ـ "ما بقيت كنحس بوالو."

قالتها ببرود، ثم أضافت:

ـ "كنضحك مع الناس، كنخدم، كنسمع الأغاني… ولكن الداخل؟ خاوي."

شعرت بالخجل فورًا. ليست من النوع الذي يُفصح عن نفسه. أصلاً، لم تكن تعرف من هي تمامًا. كل شيء في داخلها صار طبقات من التكرار، من الإنكار، من أدوار فرضتها الحياة.

قال الطبيب بهدوء، دون استعطاف:

ـ "ممكن تعاودي ليل على نهار عادي فحياتك؟ بلا ما تعمقي… غير كيفاش كيدوز؟"

استفزها الطلب، لأنها شعرت أنه سخيف. ماذا قد يعني "يومي العادي"؟ لكنه لم يلح، فاسترسلت رغمًا عنها:

ـ "كنفيق… ماكنبغيش نفيق، ولكن كنفيق. كنشرب القهوة وأنا كنخبي عيني فالمرايا، باش ما نشوفش شحال تبدلات ملامحي. كنلبس، كنمشي نخدم… كنخدم كآلة. كنردّ، كنوقّع، كنبتسم… وكنرجع. وفاش كنرجع؟ كنتفرج فالتلفازة، أو كنخرج نتمشى باش مانفكرش بزاف."

توقفت، ثم همست:

ـ "أو كنتفكر بزاف، بزاف."

أحست بغصة تقترب، لكنها لم تكن دموعًا. بل شيء أخطر: الفراغ.

الطبيب لاحظ ذلك. لم يتدخل. فقط كتب شيئًا على دفتره، ثم سأل:

ـ "منين جا الفراغ هذا؟ كاين شي لحظة معينة؟ ولا تدريجي؟"

لم تجب فورًا. الكلمات كانت ثقيلة، تحتاج أن تُستخرج من أماكن باردة جدًا. قالت بعد برهة:

ـ "يمكن… ملي فقدت شي حد. أو... ملي ماقدرتش نحكي على كيفاش فقدتو."

ارتبكت. لم تكن تنوي الخوض في الأمر بهذه السرعة. بدأت تتراجع:

ـ "ماشي مهم دابا…"

لكن الطبيب قال، بنبرة خفيفة مليئة بالاحترام:

ـ "كلشي مهم… ولكن على خاطرك، نرجعو منين بغيتي."

هي لم تكن معتادة على ذلك النوع من الردود. لم تُجبر، لم تُنتقد، لم تُقاطع. وهذا بالضبط ما بدأ يُحرك بداخلها شيئًا خامدًا منذ سنوات.

تعودت الاحكام و الصراعات، المشاكل و الصراخ و لكنها لم تتعود ... الاستماع اللامشروط

أحست بدفء غريب يمر من رقبتها إلى صدرها، كأن شيئًا تفتّح بعد شتاء طويل. لم تتكلم مجددًا لبقية الجلسة، فقط جلست هناك، تتنفس ببطء، بينما الساعة تدور.

- " شنو اكثر حاجة كتخليك تعيشي هكا ؟"

تعليقات


bottom of page