top of page

قصة غلطة : الجزء السادس

  • صورة الكاتب: Othmane El jadid
    Othmane El jadid
  • 2 يوليو
  • 3 دقيقة قراءة

لم تكن متعبة من العمل، بل من هذا الصبر الطويل الذي نَخَر عظامها بصمت. من هذا الثقل اللامرئي الذي يلتصق بروحها ولا يُمحى.


لكنها تعرف، الوحدة لم تكن أصل الجرح. بل هذه العدمية... هذا الفراغ الذي لا يفسّره منطق. كم مرة قيل لها: "عندك كلشي، راجلك، خدمتك، الناس كيبغيوك، شنو خاصك؟" لكنها كانت تدرك أن كل ذلك ليس ما أرادته قط. لا الزوج، لا العمل، لا هذا الدور الذي فُرض عليها باسم النجاح. ما أقسى أن يعيش الإنسان حياةً لا تُشبهه، حياةً صُممت لأحلام شخص آخر، تُخيط على مقاس توقعات الآخرين، بينما الروح تتقلص في الداخل وتختنق.


ربما لم يكن الحب الأول هو الخطأ، ولا الطفولة، ولا حتى الزواج... ربما الخطأ كان فيها. في كونها لا تقدر أن تترك الماضي حيث يجب أن يُترك. في تعلقها بالمألوف، بالبسيط، برائحة الأمس. كانت تخاف الجديد، ترفض التغيير، وتتمسك بما تعرفه حتى وإن كان يُؤلمها.

مرّ اليوم ببطء ثقيل، كأن عقارب الساعة تستمتع بتعذيبها. وحين خرجت من المكتب، لم تكن متحمسة لوجهة، فقط رغبة عارمة في المشي، بلا هدف، بلا أحد.


الدار البيضاء... كانت ملاذها الوحيد في هذه الحياة التي لا تشبهها. لم تكبر هنا، لكنها أحبتها. أحبت هذا الضجيج، هذا الخليط العشوائي من الوجوه، اللهجات، الأرواح التائهة. كانت المدينة تحتضن الجميع، من الهاربين من القرى، من الماضي، من الندم، من الفشل. تعطيهم فسحة حياة، مساحة منسية للبداية من جديد.


تمشي بين الأزقة كأنها تعرفها أكثر مما تعرف جسدها. شارع المقاومة يمر من تحت قدميها بثقل الذكريات، نوافذ المباني القديمة تطلّ عليها كعيون تعبى، شاهدة على آلاف القصص، آلاف الخيبات.


تشم رائحة الحافلات، تختلط بالملح الآتي من البحر، وعرق الأجساد المرهقة. ترى فتاة صغيرة تبيع الورد، عجوزًا يحدّق في الأرض، شابًا ينفث سيجارته نحو الغروب... وتدرك أن الجميع مثقل، أن لا أحد يعيش هنا دون ثمن.

واصلت السير في شوارع البيضاء كأنها تهرب من نفسها. في كل خطوة، كانت تحاول دفن صوت داخلي يصرخ فيها بالعودة، بالسكوت، بالاستسلام. كانت الشمس تميل نحو الغروب، لونها برتقالي باهت كأن السماء تشاركها الحزن.


وبينما تمرّ أمام عمارة قديمة بجانب "ساحة الأمم المتحدة"، لمحت لافتة صغيرة مكتوبة بخط قديم:

"عيادة طب نفسي – الطابق الثاني"


توقفت. شيء ما في داخلها ارتجف. ربما لأن هذه الجملة كانت تهمس لها منذ سنين لكنها كانت ترفض الإنصات.


نظرت إلى الباب الحديدي للعمارة، ثم إلى السلم المعتم خلفه. تنفّست بعمق، واستدارت تمشي... لكنها لم تستطع. وقفت مرة أخرى، تحدّق في تلك اللافتة، كأنها تتحدى عقلها. هل وصلتُ إلى هذا الحد؟ هل أنا فعلاً تائهة إلى هذا الحد؟

رفعت رأسها، وسحبت نفسًا عميقًا كمن يستعدّ للغرق، ودخلت.


رائحة الرطوبة القديمة، جدران متآكلة، وأصوات خطوات مكتومة في الأعلى. كان كل شيء فيها يريد أن يهرب. كل درجة في السلم كانت ثقيلة، تُذكّرها بكل الأسباب التي دفعتها لرفض العلاج النفسي منذ سنوات.


"ماشي حشومة نمشي لطبيب نفساني؟ شنو غيقول عليا الناس؟"

لكن لم يكن أحد يعلم، ولم يكن أحد معها. كانت وحدها، تحمل ماضيها، وجعها، ودرجة درجة، تصعد نحوه.


حين وصلت إلى الطابق الثاني، وجدت بابًا خشبيًا صغيرًا، عليه لافتة باسم العيادة. وقفت أمامه لثوانٍ، تنظر إلى الخشب كأنه سيحكم عليها.


فتحت الباب أخيرًا، لتجد نفسها في قاعة انتظار ضيقة، هادئة، فيها كرسيان وطاولة صغيرة عليها مجلات قديمة.

وراء المكتب، جلست سكرتيرة خمسينية بنظارات سميكة، رفعت عينيها نحوها وسألت، دون ابتسامة:


ـ "عندك موعد؟"



ترددت، ثم ردّت بصوت خافت:

ـ "لا… كنت غير دايزة… وش ممكن نشوف الدكتور؟"


نظرت السكرتيرة إليها بنظرة فيها خليط من الملل والحكم، ثم أشارت إلى الكرسي:

ـ "تفضلي، كاين وقت… ولكن غير جلسة أولى، باش يشوف حالتك."


جلست، يداها متعرقتان، قلبها ينبض بسرعة غريبة. لم تكن خائفة من الطبيب، بل من نفسها. من أن تبدأ بالكلام، وتنهار. من أن تنكشف. من أن تكون ضعيفة، أو أسوأ: أن تعترف أنها كانت دائمًا كذلك.

فتح الباب بعد دقائق، وظهر رجل في أواخر الخمسينات، بملامح هادئة، وشعر رمادي. نظر إليها بنظرة لم تحمل لا شفقة ولا فضول. فقط هدوء غريب، كأن عينيه تقولان: "أنا هنا فقط للاستماع."


قال بلطف:

ـ "تفضلي، مرحبًا بك."


قامت بتردد، مشت نحوه بخطى مترددة كأنها تمشي نحو مرآة لا مفرّ منها. دخلت، جلست على الكنبة الرمادية، تنظر إلى الأرض.


قال الطبيب:

ـ "خدي وقتك "


رفعت عينيها ببطء، وقالت بصوت مبحوح:


ـ "أنا ماشي مريضة… ولكن ماشي بخير."


وساد الصمت، كأن المدينة كلها توقفت لتستمع معها.

تعليقات


bottom of page