top of page

قصة غلطة : الجزء الرابع

  • صورة الكاتب: Othmane El jadid
    Othmane El jadid
  • 4 يونيو
  • 3 دقيقة قراءة

تاريخ التحديث: 2 يوليو

في ذلك الصباح، حين لامست أولى خيوط الشمس نافذة غرفتها المتهالكة، بدا النور كأنه يعتذر عن زيارته… كأن الضوء نفسه خجل من الدخول على قلب منكسر، روح مرهقة، وامرأة نسيت طعم الأحلام.


استفاقت وهي لا تعرف إن كانت غفوت حقاً أم فقط أغمضت عينيها هرباً. لا شيء في الجسد يوحي بالنوم، لكن العينين متعبتان كأنهما حملتا الجبال، والروح… آه، الروح كانت كأنها قضت الليل تصرخ في صمت.


غسلت وجهها بماء بارد كالواقع، ثم وقفت للحظة أمام مرآتها كانت واقفة أمام المرآة، لا لتتزين، بل لتقنع نفسها بأنها لا تزال تملك ملامحها. لم تكن تلك خدودها، ولا تلك عيناها. شيء ما تغير، انكسر، انطفأ دون أن تعي متى بالضبط. كانت تمرر الفرشاة على وجهها كمن يمحو أثار معركة طويلة. قليل من كريم الأساس هنا، لمسة من البودرة هناك، وكأنها ترمم وجعًا لا يُرى، وتخفي ألمًا لا يُقال.

وضعت أحمر الشفاه بحذر، كما لو أنها ترسم ابتسامة ليست لها. تلك ليست زينة، بل قناع يومي، ترتديه كل صباح قبل أن تخرج للعالم. كانت تفكر: كم من امرأة تضع الماكياج لتبدو جميلة؟ وكم من امرأة تضعه لتخفي حزنها؟ لم تكن تحب الزينة، لكنها كانت تخشى أن يرى أحد ما خلف طبقات الألوان.


ارتدت ملابسها الرسمية للعمل كما يرتدي الجندي درعه، لا حباً في الحرب، بل خوفاً من الانكشاف. أمسكت بمحفظتها الجلدية التي بدأت تتمزق من الأطراف، تماماً مثلها، وخرجت نحو يوم جديد يشبه كل البارحة.


في الطريق إلى العمل، كان الناس يعبرون الشوارع بأعين شاردة، يركضون للحاق بحياتهم، أما هي، فكانت تمشي كمن يجرّ نعش حلمه خلفه. كانت الدار البيضاء في صباحها الصاخب كأنها تتنفس بصعوبة، والضجيج حولها يزيد من وحدتها.

وصلت إلى الإدارة التي تعمل فيها، لم تكن وظيفة مُهينة، لكنها كانت كأنها قيد حول معصم روحها. كانت تفعل ما يُطلب منها، تجلس أمام الحاسوب، تبتسم للغرباء، تصنع مجاملات باردة، بينما في الداخل، كانت تنهار بصمت.


وفي لحظة شرود، خلال رتابة اليوم، مرّت صورة في ذهنها… هو. ذلك الفتى الذي كانت تراه صباحاً في الثانوية، يحمل رواية لا تحمل عنواناً، ويبتسم كأنه يعرف النهاية قبل البداية. تذكّرت يومها حين سألته عن الرواية، تذكرت ارتباكها، احمرار وجهها، تلك الارتعاشة الطفولية في أطرافها.


كان أول من قال لها:

"كتعجبيني ملي كتكوني ساكتة..."


تذكرت كيف بدأ كل شيء، قبل سنوات طويلة، عندما كانت لا تزال في الثانوية، شابة يملؤها القلق والخجل. ذلك الصباح، استيقظت باكرًا، كعادتها، وساعدت أمها في تحضير الشاي وقطع الخبز. لم يكن في البيت متسع للفرح، لكن كانت تؤمن أن الخارج قد يمنحها بعضه. لبست جلبابًا بسيطًا، وشدت شعرها في ذيل حصان، ثم خرجت إلى الطريق الترابي المؤدي إلى الحافلة.

كانت الطريق موحلة، والبرد يتسرب إلى أطرافها، لكنها لم تهتم. كانت تحب المدرسة رغم كل شيء، تحب الكتب، وتحب تلك اللحظات التي تنسى فيها واقعها بين دفتي رواية أو صفحة شعر. في الحافلة، جلست قرب النافذة، تراقب الضباب يتناثر على الزجاج، وتتنفس بعمق. كانت تشعر بشيء مختلف في صدرها، وكأن يومًا جديدًا يحمل مفترقًا لا تدري ماهيته.


حين وصلت إلى الثانوية، مرّت بسرعة نحو القسم، متجنبة الأعين. لم تكن محبوبة، ولم تكن مكروهة. كانت ببساطة فتاة غير مرئية، تمر بين الجموع دون أن يلاحظها أحد. حتى ذلك اليوم.


جلس إلى جانبها في حصة اللغة العربية. لم يكن هناك مكان آخر، فاختار المقعد الفارغ بجانبها دون كثير تفكير. لم يكن يشبه البقية. كان طويلًا قليلاً، له عيون داكنة فيها شيء من الحزن والهدوء. في البداية لم يتحدث، لكنه ابتسم عندما سقط قلمها من الطاولة وقال:

"هاك… راه ستيلوك طاح، ماشي قلبك."

ابتسمت، ثم نظرت إلى الأرض حتى لا يرى احمرار وجهها.


مرّت الأيام، وبدأ يتحدث معها أكثر. كان يُبدي إعجابه بطريقة تفكيرها، ويمازحها بلطافة. وفي مرة، قال لها بعد أن أنهيا عرضًا شفهيًا مشتركًا:

"عارفة؟ ما كنتش كنفكر نلقا شي حد فهاد المدرسة اللي يفهمني"


كانت تلك الجملة كافية لتشعل قلبها لأسابيع. بدأت تنتظر رؤيته كل صباح، تعد الأيام، وتحفظ نبرات صوته، تفرح إذا تبادل معها الحديث، وتحزن إن مرّ بجانبها دون أن يراها. لم يكن يشبهها… كان ابن المدينة، يعرف كيف يتحدث وكيف يضحك في وجه الحياة، يتنقل بين الكلمات بخفة، ويُلقي العبارات كما تُرمى النُكت في المقاهي. كان عفويًا، لا يقصد الأذى، لكنه لم يدرك أبدًا أنها كانت هشة، تتلقف كل كلمة منه كأنها وعد، وكل نظرة كأنها اعتراف، وكل ضحكة كأنها حب. لم يكن يعرف أنها كانت تقع… ببطء، بصدق، وبكل ما فيها. في بيتها، لم تكن تجرؤ على الحديث عنه. لم تكن عائلتها من النوع الذي يُشجع على الحب أو حتى الاعتراف بالمشاعر. كانت تحفظ كل شيء في قلبها، وتخفيه بين صفحات دفاترها، وتكتب اسمه بالحبر الخفيف على الهامش.

وفي لحظة سهو في العمل هذا الصباح، عاد كل شيء.


عادت تلك النظرة الأولى، تلك الضحكة، تلك الجملة العابرة التي سكنت قلبها سنوات. عادت خيبات ما بعده، ولكن الأهم… عاد الإحساس بأنها، ولو للحظة، كانت محبوبة رغم تبين الحقيقة لمرة بعدها كيف لنا أن ننسى من يوما ما رسم الابتسامة في وجوهنا رغم انه محى كل السعادة من روحنا بعد ذلك; بين هاته و تلك نبقى في حيرة .


اغمضت عينيها و تمنت ان يتوقف الضجيج …. كل الضجيج، وقالت لنفسها بصوت منخفض:

"صافي… براكة عييت."

يتبع ...

تعليقات


bottom of page