top of page

قصة غلطة : الجزء الاول

  • صورة الكاتب: Othmane El jadid
    Othmane El jadid
  • 4 يونيو
  • 2 دقيقة قراءة

تاريخ التحديث: 2 يوليو

لمحتُها وسط ضجيج الحانة، تجلس على كرسيٍ مهترئٍ بين طاولات مكتظّة بالغرباء، ووحدتها تحاصرها كما يحاصر الليل المدن المنسية. حولها زجاجات فارغة تُعلن عن هزائم متكرّرة، ورماد سجائر متناثر يخبرك بأن الحرب بداخلها لم تهدأ بعد. وجهها... وجهٌ أكلَ الزمانُ ملامحه، وعينان متعبتان تحاولان التشبّث بالحياة رغم انسحابها البطيء.


كل ندبةٍ على جبينها كانت سيرة، وكل هالةٍ سوداء تحيط بعينيها كانت فصلاً من ليالٍ سوداء مرّت عليها، عارية من الرحمة، ثقيلة بالحزن، شبيهة بليل بلا نجوم.


كانت تجلس هناك، ولا تجلس... كان جسدها في الحانة، أما عقلها، فقد غاص في دوّامة أفكارٍ متشابكة، تصفعها الذكرى تلو الأخرى. وفجأة، انخفض صوت موسيقى "الشعبي" التي كانت تصدح من آلة قديمة في زاوية المكان، ليرتفع صوت الشاب رزقي يغني بصوته المكسور:

"أنا الغلطان... ماشي نتي..."

اهتزّ شيء ما في داخلها. الأغنية التي سمعَتها آلاف المرات، تلك التي كانت مجرّد لحن، أصبحت الآن نصلًا يشق قلبها. عادت بها الذاكرة إلى زمنٍ سحيق... إلى طفولتها النقية، إلى ضحكتها الأولى، حين كانت تشغّل نفس الأغنية على جهاز MP3 قديم جلبه لها عمّها من الديار الاسبانية، فكان كنزها في عالم بسيط لا يملك شيئًا.


كانت حينها طفلةً يملأها الأمل، لا تعرف عن الحياة سوى ما تمنحه الطبيعة من ضوء، وعن الحب سوى ما ترويه الحكايات. وُلدت في قرية صغيرة على هامش نواحي غرب المغرب، حيث لا شيء سوى ترابٍ صافٍ، وقلوبٍ طيّبة، وجدرانٍ تحفظ حرارة العائلة.


كبرت وسط أسرة فقيرة، لكن الفقر لم يكن مرئياً؛ فالكل في القرية يعيشون نفس البساطة، يضحكون من القلب، ويحلمون بصوتٍ عالٍ رغم ضيق اليد. حلمها الكبير؟ أن تزور المدينة. مدينة الأضواء، والعمارات التي تلمس السماء، والمقاهي التي تراها في الإعلانات. كانت تريد أن تعرف ما وراء "الفيلاج"، أن ترى "الآخر"، أن تكون شيئًا أكبر من مجرد بنت قروية.

في طريقها إلى الثانوية، ترتدي وزرتها البيضاء وتحمل دفترًا صغيرًا فيه أغاني من تحب، كانت تمشي بمحاذاة الشارع الوحيد في قريتها، والطريق إليها كان شاسعًا... شاسعًا كفاية ليحمل كل أحلامها الصغيرة. كانت تظن أن الحياة تنتظرها بأذرعٍ مفتوحة، وأن الحب نهر سيغسل كل تعب، وأن المدينة ستحبها كما أحبّتها هي.


لكنها لم تعلم، أن قلبها نفسه سيكون سبب نهايتها.


الحلم تحوّل إلى كابوس.

الضوء تحوّل إلى جمر.

والحب... كان مجرّد قناع.


حادثةٌ واحدة، اختطفت منها كل شيء. حادثة طمست نور عينيها، وجرّفت طفولتها كما تجرف السيول تراب الأرض.

لم تعد بعدها تلك الفتاة.

تحوّلت.


تحوّلت من طفلة حالمة،

إلى امرأة ثلاثينية،

تجلس في زاوية معتمة من حانة رطبة في أحد أزقة الدار البيضاء،

ترتشف جعة النسيان،

وتحترق كلّ مساء.


تعليقات


bottom of page